فصل: سورة النمل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 129‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏ أي مع هذه الدلائل والآيات ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ أي المنتقم الذي لا يغالب وهو في وصف عزته رحيم‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏كذب قوم نوح المرسلين‏}‏ اي كذبت جماعة قوم نوح، قيل‏:‏ القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف قال المرسلين وإنما هو رسول واحد وكذلك باقي القصص‏.‏ قلت‏:‏ لأن دين الرسل واحد وإن الآخر منهم جاء بما جاء به الأول فمن كذب واحد من الأنبياء فقد كذب جميعهم ‏{‏إذ قال لهم أخوهم نوح‏}‏ أي أخوهم في النسب لا في الدين ‏{‏ألا تتقون‏}‏ أي ألا تخافون فتتركوا الكفر والمعاصي ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏ أي على الوحي، وكان معروفاً عندهم بالأمانة ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي بطاعته وعبادته ‏{‏وأطيعون‏}‏ أي فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد ‏{‏وما أسألكم عليه من أجر‏}‏ أي من جعل وجزاء ‏{‏إن أجري‏}‏ أي ثوابي ‏{‏إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ قيل‏:‏ كرره ليؤكده عليهم ويقرره في نفوسهم وقيل ليس فيه تكرار معنى الأول ألا تتقون الله في مخالفتي وأنا رسول الله ومعنى الثاني ألا تتقون الله في مخالفتي وإني لست آخذ منكم أجراً ‏{‏قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون‏}‏ أي السفلة قال ابن عباس‏:‏ يعني القافة وقيل هم الحاكة والأساكفة ‏{‏قال‏}‏ يعني نوحاً ‏{‏وما علمي بما كانوا يعملون‏}‏ أي وما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس علي من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء إنما كلفت أن أدعوهم إلى الله تعالى، وما لي إلا ظواهر أمرهم وقال الزجاج الصناعات لا تضر في الديانات وقيل‏:‏ معناه إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلهم ‏{‏إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون‏}‏ أي لو تعلمون ذلك ما عيرتموهم بصنائعهم ‏{‏وما أنا بطارد المؤمنين‏}‏ أي عني وقد آمنوا ‏{‏إن أنا إلا نذير مبين‏}‏ معناه أخوف من كذبني فمن آمن فهو القريب مني ومن لم يؤمن فهو البعيد عني ‏{‏قالوا لئن لم تنته يا نوح‏}‏ أي عما تقول ‏{‏لتكونن من المرجومين‏}‏ أي من المقتولين بالحجارة وهو أسوأ القتل وقيل من المشتومين ‏{‏قال رب إن قومي كذبون فافتح‏}‏ أي احكم ‏{‏بيني وبينهم فتحاً‏}‏ أي حكماً ‏{‏ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون‏}‏ أي الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان ‏{‏ثم أغرقنا بعد الباقين‏}‏ أي بعد إنجاء نوح ومن معه ‏{‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ قوله تعالى ‏{‏كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين‏}‏ أي أمين على الرسالة فكيف تتهمونني اليوم ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي بكل شرف وفي رواية عنه بكل طريق، وقيل‏:‏ هو الفج بين الجبلين وقيل‏:‏ المكان المرتفع ‏{‏آية‏}‏ أي علامة وهي العلم ‏{‏تعبثون‏}‏ يعني بمن مر بالطريق والمعنى، أنهم كانوا‏:‏ يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم، وقيل إنهم بنوا بروج الحمام فأنكر عليهم هو باتخاذها، ومعنى تعبثون تلعبون بالحمام ‏{‏وتتخذون مصانع‏}‏ قال ابن عباس أبنية وقيل قصوراً مشيدة وحصوناً مانعة، وقيل مآخذ الماء يعني الحياض ‏{‏لعلكم تخلدون‏}‏ أي كأنكم تبقون فيها خالدين لا تموتون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 155‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا بطشتم‏}‏ أي وإذا أخذتم وسطوتم ‏{‏بطشتم جبارين‏}‏ أي قتلاً بالسيف وضرباً بالسوط والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب، وهو مذموم في وصف البشر ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ فيه زيادة زجر عن حب الدنيا والشرف والتفاخر ‏{‏واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون‏}‏ أي أعطاكم من الخير ما تعلمون ثم ذكر ما أعطاهم فقال ‏{‏أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون‏}‏ فيه التنبيه على نعمة الله تعالى عليهم ‏{‏إني أخاف عليكم‏}‏ قال ابن عباس إن عصيتموني ‏{‏عذاب يوم عظيم‏}‏ فكان جوابهم أن ‏{‏قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين‏}‏ أي أنهم أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه، واستخفافهم بما أورده من المواعظ والوعظ كلام يلين القلب يذكر الوعد والوعيد ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏ قرئ بفتح الخاء أي اختلاق الأولين وكذبهم وقرئ خلق بضم الخاء، واللام أي عادة الأولين من قبلنا أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب وقولهم ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏ أين أنهم أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكارهم المعاد ‏{‏فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ قوله تعالى ‏{‏كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون فيما ها هنا آمنين‏}‏ أي في الدنيا من العذاب ‏{‏في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها‏}‏ أي ثمرها الذي يطلع منها ‏{‏هضيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لطيف وعنه يانع نضيج وقيل‏:‏ هو اللين الرخو‏.‏ وقيل‏:‏ متهشم يتفتت إذا مس‏.‏ وقيل‏:‏ الهضيم هو الذي دخل بعضه في بعض من النضج أو النعومة وقيل هو المدرك ‏{‏وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين‏}‏ وقرئ فرهين قيل‏:‏ الفاره الحاذق بنحتها والفره قال ابن عباس‏:‏ الأشر والبطر وقيل‏:‏ معناه متجبرين فرحين معجبين بصنعكم ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي المشركين وقيل يعني التسعة الذين عقروا الناقة ‏{‏الذين يفسدون في الأرض‏}‏ أي بالمعاصي ‏{‏ولا يصلحون‏}‏ أي لا يطعيون الله فيما أمرهم ‏{‏قالوا إنما أنت من المسحرين‏}‏ أي المسحورين المخدوعين وقال ابن عباس‏:‏ من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ‏{‏ما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏ والمعنى أنت بشر مثلنا ولست بملك ‏{‏فأت بآية‏}‏ يعني على صحة ما تقول ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ يعني أنك رسول إلينا ‏{‏قال هذه ناقة لها شرب‏}‏ أي حظ من الماء ‏{‏ولكم شرب يوم معلوم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 188‏]‏

‏{‏وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏ أي بعقر ‏{‏فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين‏}‏ أي على عقرها لما رأوا العذاب ‏{‏فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلى على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين‏}‏ يعني نكاح الرجال من بني آدم ‏{‏وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم‏}‏ يعني أتتركون العضو المباح من النساء وتميلون إلى أدبار الرجال ‏{‏بل أنتم قوم عادون‏}‏ أي معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام ‏{‏قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين‏}‏ أي من قريتنا ‏{‏قال إني لعملكم من القالين‏}‏ أي من التاركين المبغضين ‏{‏رب نجني وأهلي مما يعملون‏}‏ أي من العمل الخبيث قال الله تعالى ‏{‏فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزاً‏}‏ أي امرأته ‏{‏في الغابرين‏}‏ أي بقيت في المهلكين ‏{‏ثم دمرنا الآخرين‏}‏ أي أهلكناهم ‏{‏وأمطرنا عليهم مطراً‏}‏ يعني الكبريت والنار ‏{‏فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏كذب أصحاب الأيكة المرسلين‏}‏ أي الغيضة الملتفة من الشجر وقيل هو اسم البلد ‏{‏إذ قال لهم شعيب‏}‏ لم يقل لهم أخوهم لأنه لم يكن منهم وإنما كان من مدين وأرسل إليهم ‏{‏ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين‏}‏ إنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكي عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته، والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة، ‏{‏أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين‏}‏ أي الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن ‏{‏وزنوا بالقسطاس‏}‏ أي بالميزان العدل ‏{‏المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين‏}‏ يعني الخليقة والأمم المتقدمة ‏{‏قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فاسقط علينا كسفاً‏}‏ يعني قطعاً ‏{‏من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون‏}‏ يعني من نقصان الكيل والوزن وهو مجازيكم بأعمالكم، وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة والتبليغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 214‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏197‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ‏(‏198‏)‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏199‏)‏ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏200‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏201‏)‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏202‏)‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ‏(‏203‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏204‏)‏ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏‏}‏

‏{‏فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم‏}‏ وذلك أنهم أصابهم حر شديد فكانوا يدخلون الأسراب، فيجدونها أحر من ذلك فيخرجون فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً ‏{‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورة الأعراف وهود فأغنى عن الإعادة هنا والله أعلم بمراده قوله عز وجل ‏{‏وإنه‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لتنزيل رب العالمين‏}‏ يعني أن فيه من أخبار الأمم الماضية ما يدل على أنه من رب العالمين ‏{‏نزل به الروح الأمين‏}‏ يعني جبريل عليه السلام سماه زوجاً لأنه خلق من الروح وسماه أميناً، لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه ‏{‏على قلب‏}‏ يعني على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه وإنما خص القلب لأنه هو المخاطب في الحقيقة، وأنه موضع التمييز والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» أخرجاه في الصحيحين‏.‏ ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور، والغم والحزن هو القلب، فإذا فرح القلب أو حزن تغير حال سائر الأعضاء فكأن القلب كالرئيس لها، ومنه أن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق، وهو المكلف والتكليف مشروط بالعقل والفهم‏.‏ قوله تعالى ‏{‏لتكون من المنذرين‏}‏ أي المخوفين ‏{‏بلسان عربي مبين‏}‏ قال ابن عباس بلسان قريش ليفهموا ما فيه ‏{‏وإنه‏}‏ يعني القرآن وقيل ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته ‏{‏لفي زبر الأولين‏}‏ أي كتب الأولين ‏{‏أولم يكن لهم آية‏}‏ يعني أولم يكن لهؤلاء المتكبرين علامة ودلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أن يعلمه‏}‏ يعني يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏علماء بني إسرائيل‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه صلى الله عليه وسلم قيل كانوا خمسة عبدالله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد‏.‏ قوله تعالى ‏{‏ولو نزلناه‏}‏ يعني القرآن ‏{‏على بعض الأعجمين‏}‏ جمع أعجمي وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية، وإن كان عربياً في النسب ومعنى الآية، وأنزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان ‏{‏فقرأه عليهم‏}‏ يعني القرآن ‏{‏ما كانوا به مؤمنين‏}‏ أي لقالوا لا نفقه قولك وقيل معناه لما آمنوا به أنفه من اتباع من ليس من العرب ‏{‏كذلك سلكناه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أدخلنا الشرك والتكذيب ‏{‏في قلوب المجرمين لا يؤمنون به‏}‏ آي القرآن ‏{‏حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون‏}‏ أي لنؤمن ونصدق وتمنوا الرجعة ولا رجعة لهم ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏ قيل لما وعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب، فأنزل الله أفبعذابنا يستعجلون ‏{‏أفرأيت إن متعناهم سنين‏}‏ أي كفار مكة في الدنيا ولم نهلكهم ‏{‏ثم جاءهم ما كانوا يوعدون‏}‏ يعني العذاب ‏{‏ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون‏}‏ أي في تلك السنين الكثيرة والمعنى أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئاً ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون‏}‏ أي رسل ينذرونهم ‏{‏ذكرى‏}‏ أي تذكره ‏{‏وما كنا ظالمين‏}‏ أي في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم ‏{‏وما تنزلت به الشياطين‏}‏ يعني أن المشركين كانوا يقولون‏:‏ إن الشياطين يلقون القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ذلك ‏{‏وما ينبغي لهم‏}‏ أن ينزلوا بالقرآن ‏{‏وما يستطيعون‏}‏ أي ذلك، ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك فقال ‏{‏إنهم عن السمع لمعزولون‏}‏ أي محجوبون بالرمي بالشهب فلا يصلون إلى استراق السمع ‏{‏فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره لأنه معصوم من ذلك‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يحذر بهم غيره يقول أنت أكرم الخلق علي، ولو اتخذت إلهاً غيري لعذبتك‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ روى محمد بن إسحاق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال‏:‏ يا محمد أن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لنا طعاماً واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن ثم اجمع لي بن عبدالمطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذٍ نحو أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت فجئت به، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال‏:‏ خذوا باسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وايم الله أن كان الرجل الواحد ليأكل، مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً، وأيم الله أن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال‏:‏ سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الغد يا‏:‏ علي فإن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فاعدد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم أجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه سلم فقال‏:‏ يا بني عبدالمطلب إني قد جئتكم بخبري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا، ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً، وأنا أحدثهم سناً فقلت أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي، ثم قال هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه»

‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي‏:‏ «يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش، حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذباً قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»‏.‏

فقال أبو لهب‏:‏ تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتتنا فنزلت ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب‏}‏ وفي رواية قد تب وفي رواية للبخاري، «لما نزلت ‏{‏وانذر عشيرتك الأقربين‏}‏ ورهطك منهم المخلصين خرج سول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه»، فقالوا من هذا واجتمعوا إليه وذكر نحوه ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ وقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها «اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت رسول الله سليني ماشئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً» ‏(‏م‏)‏ عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قالا لما نزلت ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة جبل فعلا أعلاها حجراً ثم نادى «يا بني عبد مناف إني نذير لكم إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه» ومعنى الآية أن الإنسان إذا بدأ بنفسه أولاً وبالأقرب فالأقرب من أهله ثانياً لم يكن لأحد عليه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 227‏]‏

‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

‏{‏واخفض‏}‏ اي ألن ‏{‏جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏ فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله ‏{‏من المؤمنين‏}‏ وقلت‏:‏ معناه لمن اتبعك من المؤمنين المصدقين بقلوبهم وألسنتهم دون المؤمنين بألستنهم وهم المنافقون ‏{‏فإن عصوك‏}‏ يعني فيما تأمرهم به ‏{‏فقل إني بريء مما تعملون‏}‏ يعني من الكفر والمخالفة ‏{‏وتوكل على العزيز الرحيم‏}‏ التوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره وهو الله تعالى العزيز الذي يقهر أعداءك، بعزته الرحيم الذي ينصرك عليهم برحمته ‏{‏الذي يراك حين تقوم‏}‏ إلى صلاتك وقيل يراك أينما كنت وقيل يراك حين تقوم لدعائك ‏{‏وتقلبك في الساجدين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ويرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك وقيل مع المصلين في الجماعة يقول يراك إذا صليت وحدك ومع الجماعة، وقيل‏:‏ معناه يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان صلى الله عليه وسلم يبصر من خلفه كما يبصر من قدامه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري» وقيل‏:‏ معناه يرى تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين‏.‏ قيل‏:‏ تصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك وقال ابن عباس أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة ‏{‏إنه هو السميع‏}‏ يعني لقولك ودعائك ‏{‏العليم‏}‏ يعني بنيتك وعملك قل يا محمد ‏{‏هل أنبئكم‏}‏ يعني أخبركم ‏{‏على من تنزل الشياطين‏}‏ هذا جواب لقولهم ينزل عليه شيطان ثم بين على من تنزل الشياطين فقال تعالى ‏{‏تنزل على كل أفاك‏}‏ يعني كذاب ‏{‏أثيم‏}‏ يعني فاجر وهم الكهنة وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع، ثم يلقون ذلك إلى أوليائهم من الإنس وهو قوله تعالى ‏{‏يلقون السمع‏}‏ يعني ما يسمعون من الملائكة فيلقونه إلى الكهنة ‏{‏وأكثرهم كاذبون‏}‏ لأنهم يخلطون به كذباً كثيراً ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏ قال أهل التفسير أراد شعراء الكفار والذي كانوا يهدون النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبدالله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عمرو بن عبدالله الجمحي وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب، والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون محمداً صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وكانوا يروون عنهم قولهم فلذلك قوله ‏{‏يتبعهم الغاوون‏}‏ فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين، وقيل الغاوون هم الشياطين وقيل هم السفهاء الضالون وفي رواية أن الرجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل واحد غواة من قومه، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية ‏{‏ألم تر أنهم في كل وادٍ‏}‏ من أودية الكلام ‏{‏يهيمون‏}‏ يعني حائرين وعن طريق الحق حائدين، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وقال ابن عباس في كل لغو يخوضون، وقيل يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل أنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق، فالوادي مثل لفنون الكلام والغوص في المعاني والقوافي ‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏ أي أنهم يكذبون في شعرهم وقيل إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه وهم لا يفعلونه ويذمون البخل ويصرون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

«لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً» ثم استثنى شعراء المسلمين الذي كانوا يجتنبون شعر الكفار، ويهجون وينافحون عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه منهم حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك فقال تعالى ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ روي أن كعب بن مالك قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل في الشعر ما أنزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول‏:‏

خلو بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله

فقال عمر يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل «أخرجه الترمذي والنسائي‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ وقد روي في غير هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه، وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبدالله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وكانت عمرة القضاء بعد ذلك قلت الصحيح، هو الأول لأن عمرة القضاء كانت سنة سبع ويوم مؤتة سنة ثمان والله أعلم ‏(‏ق‏)‏ عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم قريظة لحسان‏:‏» أهج المشركين فإن جبريل معك «‏(‏خ‏)‏ عن عائشة قالت» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينافح ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله «

‏(‏م‏)‏ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال أهجهم فهجاهم فلم يرضى فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه حسان‏:‏ قال‏:‏ قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال‏:‏ والذي بعث بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال‏:‏ يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق نبياً لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين» قالت عائشة‏:‏ فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان‏:‏ «إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله» قالت وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «هجاهم حسان فشفى واشتفى» فقال حسان‏:‏

هجوت محمداً فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء

هجوت محمداً براً تقياً *** رسول الله شيمته الوفاء

فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

ثكلت بنيتي إن لمم تروها *** تثير النقع موعدها كداء

يبارين الأعنة مصعدات *** على أكنافها الأسل الظماء

تظل جيادها متمطرات *** تلطمهن بالخمر النساء

فإن أعرضتم عنا اعتمرنا *** وكان الفتح وانكشف الغطاء

وإلا فاصبروا لضراب يوم *** يعز الله فيه من يشاء

وقال الله قد أرسلت عبداً *** يقول الحق ليس به خفاء

وقال الله قد سيرت جنداً *** هم الأنصار عرضتها اللقاء

لنا في كل يوم من معد *** سباب أو قتال أو هجاء

فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء

وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء

فصل في مدح الشعر

‏(‏خ‏)‏ عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن من الشعر لحكمة» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال «إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً» أخرجه أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال‏:‏ «ردفت وراء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء، قلت نعم قال‏:‏ هيه‏:‏ فأنشدته بيتاً فقال‏:‏ هيه ثم أنشدته بيتاً قال‏:‏ هيه حتى أنشدته مائة بيت» زاد في رواية «لقد كان يسلم شعره» عن جابر بن سمره قال‏:‏ «جالست النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت وربما تبسم معهم» أخرجه الترمذي‏.‏

وقال حديث حسن صحيح‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ منه الحسن ودع منه القبيح‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان علي أشعر منهما وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في المسجد، فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي، فاستنشده القصيدة التي قالها فقال‏:‏

آمن آل نعمٍ أنت غاد فمبكر *** غداة غد أم رائح فمهجر

فأنشده القصيدة إلى آخرها، وهي قريب من تسعين بيتاً ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وذكروا الله كثيراً‏}‏ أي لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ‏{‏وانتصروا من بعد ما ظلموا‏}‏ أي انتصروا من المشركين لأنهم بدؤوا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين فقال تعالى ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا‏}‏ أي أشركوا وهجوا رسول لله صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر المطهر من الهجاء ‏{‏أي منقلب ينقلبون‏}‏ أي أيَّ مرجع يرجعون إليه بعد الموت قال ابن عباس‏:‏ إلى جهنم وبئس المصير والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة النمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏طس تلك آيات القرآن‏}‏ أي هذه آيات القرآن ‏{‏وكتاب مبين‏}‏ أي وآيات كتاب مبين ‏{‏هدى وبشرى للمؤمنين‏}‏ أي هو هدى من الضلالة، وبشرى لهم بالجنة ‏{‏الذين يقيمون الصلاة‏}‏ أي الخمس بشرائطها ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏ أي إذا وجبت عليهم طيبة بها أنفسهم ‏{‏وهم بالآخرة هم يوقنون‏}‏ يعني أن هؤلاء الذين يعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم‏}‏ أي القبيحة حتى رأوها حسنة وقيل‏:‏ إن التزين هو أن يخلق الله العلم في القلب بما فيه المنافع واللذات ولا يخلق العمل بما فيه المضار والآفات ‏{‏فهم يعمهون‏}‏ أي يترددون فيها متحيرين ‏{‏أولئك الذين لهم سوء العذاب‏}‏ أي أشده وهو القتل والأسر ‏{‏وهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏ أي أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وساورا إلى النار‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وإنك لتلقى القرآن‏}‏ أي تؤتاه وتلقنه حياً ‏{‏من لدن حكيم عليم‏}‏ أي حكيم عليم بما أنزل إليك‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما الفرق بين الحكمة والعلم‏.‏ قلت‏:‏ الحكمة هي العلم بالأمور العلمية فقط والعلم أعم منه لأنه العلم قد يكون علماً، وقد يكون نظراً والعلوم النظرية أشرف ‏{‏إذ قال‏}‏ أي واذكر يا محمد إذ قال ‏{‏موسى لأهله‏}‏ أي في مسيره بأهله من مدين إلى مصر ‏{‏إني آنست‏}‏ أي أبصرت ‏{‏ناراً سآتيكم منها بخبر‏}‏ أي امكثوا مكانكم سآتيكم بخبر عن الطريق، وقد كان ضل عن الطريق ‏{‏أو آتيكم بشهاب قبس‏}‏ الشهاب شعلة النار والقبس النار المقبوسة منها، وقيل‏:‏ القبس هو العود الذي في أحد طرفيه نار ‏{‏لعلكم تصطلون‏}‏ يعني تستدفئون من البرد كان في شدة الشتاء ‏{‏فلما جاءها نودي أن بورك من في النار‏}‏ يعني بورك على من في النار وقيل‏:‏ البركة راجعة إلى موسى والملائكة والمعنى من في طلب النار وهو موسى ‏{‏ومن حولها‏}‏ وهم الملائكة الذين حول النار وهذه تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، وقيل‏:‏ المراد من النار النور وذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه ناراً من النار هم الملائكة وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ومن حولها موسى، لأنه كان بالقرب منها وقيل البركة راجعة إلى النار، وقال ابن عباس‏:‏ معناه بوركت النار والمعنى بورك من في النار ومن حولها وهم الملائكة وموسى وروي عن ابن عباس في قوله بورك من في النار قدس من في النار وهو الله تعالى عنى به نفسه على معنى أنه نادى موسى وأسمعه من جهتها كما روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعين واستعلى من جبال فاران ومعنى مجيئه من سيناء بعثه موسى منه، ومن ساعين بعثة المسيح ومن جبال فاران بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وفاران اسم مكة، وقيل كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل كما صح في الحديث «حجابة النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ثم نزه الله سبحانه وتعالى نفسه، وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال تعالى ‏{‏وسبحان الله رب العالمين‏}‏ ثم تعرف إلى موسى بصفاته فقال‏:‏ الله يا موسى ‏{‏إنه أنا الله العزيز الحكيم‏}‏ قيل معناه أن موسى قال‏:‏ من المنادي قال‏:‏ إنه أنا الله وهذا تمهيد لما أراد الله أن يظهره على يده من المعجزات، والمعنى أن القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية وهو قوله ‏{‏وألق عصاك‏}‏ تقديره فألقاها فصارت حية ‏{‏فلما رآها تهتز‏}‏ أي تتحرك ‏{‏كأنها جان‏}‏ وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها ‏{‏ولى مدبراً‏}‏ يعني هرب من الخوف ‏{‏ولم يعقب‏}‏ يعني لم يرجع، ولم يلتفت قال الله تعالى ‏{‏يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون‏}‏ يريد إذا أمنتهم لا يخافون أما الخوف الذي هو شرط الإيمان، فلا يفارقهم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنا أخشاكم لله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم‏}‏ قيل‏:‏ هو ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل والصغيرة وقيل يحتمل أن يكون المراد منه التعريض بما وجد من موسى من قتل القبطي وهو من التعريضات اللطيفة وسماه ظلماً لقول موسى ‏{‏إني ظلمت نفسي‏}‏ ثم إنه خاف من ذلك فتاب قال‏:‏ ‏{‏رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له‏}‏ قال ابن جريح‏:‏ قال الله تعالى لموسى إنما أخفتك لقتلك النفس، ومعنى الآية لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يتوب، فعلى هذا التأويل يكون صحيحاً وتناهى ا لخبر عن الرسل عند قوله إلا من ظلم ثم ابتدأ الخبر عن حالة من ظلم من الناس كافة وفي الآية متروك استغنى عن ذكره لدلالة الكلام عليه تقديره‏:‏ فمن ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم وقيل ليس هذا الاستثناء من المرسلين، لأنه لا يجوز عليهم الظلم بل هو استثناء من المتروك ومعناه‏:‏ لا يخاف لدي المرسلون إنما الخوف عليهم من الظالمين وهذا الاستثناء المنقطع معناه لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف فإن تاب وبدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم أي أغفر له وأزيل خوفه وقيل‏:‏ إلا هنا بمعنى ولا معناه ولا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم، ثم بدل حسناً بعد سوء يعني تاب من ظلمه فإني غفور رحيم ثم إن الله تعالى أراه آية أخرى فقال تعالى ‏{‏وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء‏}‏ قيل كانت عليه مدرعة صوف لا كمَّ لها، ولا أزرار فأدخل يده في جيبها وأخرجها فإذا هي تبرق مثل شعاع الشمس أو البرق ‏{‏من غير سوء‏}‏ يعني من غير برص ‏{‏في تسع آيات‏}‏ يعني آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن فعلى هذا تكون الآيات إحدى عشرة العصا واليد البيضاء والفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم، وقيل‏:‏ في بمعنى من أي من تسع آيات فتكون اليد البيضاء من التسع ‏{‏إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوماً فاسقين‏}‏ يعني خارجين عن الطاعة ‏{‏فلما جاءتهم آياتنا مبصرة‏}‏ يعني بينة واضحة يبصرونها ‏{‏قالوا هذا‏}‏ يعني الذي نراه ‏{‏سحر مبين‏}‏ يعني ظاهر ‏{‏وجحدوا بها‏}‏ يعني أنكروه الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله ‏{‏واستيقنتها أنفسهم‏}‏ يعني علموا أنها من عند الله والمعنى أنهم جحدوا بها بألسنتهم واستيقنوها بقلوبهم وضمائرهم ‏{‏ظلماً وعلواً‏}‏ أي شركاً وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏ يعني الغرق‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ولقد آتينا داود وسليمان علماً‏}‏ يعني علم القضاء والسياسة وعلم داود تسبيح الطير، والجبال وعلم سليمان منطق الطير والدواب ‏{‏وقالا الحمد لله الذي فضلنا‏}‏ يعني بالنبوة والكتاب والملك وتسخير الجن والإنس ‏{‏على كثير من عباده المؤمنين‏}‏ أراد الكثير الذي فضلا عليهم من لم يؤت علماً أو لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وقيل إنهما لم يفضلا أنفسهما على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وورث سليمان داود‏}‏ يعني نبوته وعلمه، وملكه دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابناً وأعطي سليمان ما أعطي داود وزيد له تسخير الريح، والجن والشياطين قال مقاتل‏:‏ كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه وكان داود أشد تعبداً من سليمان كان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى ‏{‏وقال‏}‏ يعني سليمان ‏{‏يا أيها الناس علمنا منطق الطير‏}‏ سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه، وروي عن كعب الأحبار قال‏:‏ صاح ورشان عند سليمان، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب وصاحت فاختة فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا لا قال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ إنه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال‏:‏ أتدرون ما يقول هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ إنه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال‏:‏ أتدرون ما يقول هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال إنه يقول استغفوا ربكم يا مذنبين وصاحت طيطوى فقال أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فإنها تقول كلي حي ميت وكل جديد بال وصاح خطاف فقال‏:‏ أتدرون ما يقول قالوا‏:‏ لا قال إنه يقول قدموا خيراً تجدوه وهدرت حمامة قال‏:‏ أتدرون ما تقول قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وصاح قمري قال أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال إنه يقول سبحان ربي الدائم قال والغراب يدعو على العشار والحدأة تقول كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول من سكت سلم والببغاء تقول‏:‏ ويل لمن كانت الدنيا همه‏.‏ والضفدع يقول سبحان ربي القدوس والبازي يقول‏:‏ سبحان ربي وبحمده والضفدعة تقول‏:‏ سبحان المذكور بكل لسان‏.‏

وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال‏:‏ أتدرون ما يقول قالوا‏:‏ لا قال إنه يقول الرحمن على العرش استوى وقال فرقد مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه، ويميل ذنبه فقال‏:‏ لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل‏؟‏ قالوا الله ونبيه أعلم قال إنه يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس‏:‏ إنا سائلوك عن سبعة أشياء إن أخبرتنا آمنا وصدقنا قال‏:‏ سلوا تفقهاً لا تعنتاً قالوا أخبرنا ما تقول القنبرة في صفيرها والديك في صعيقه، والضفدع في نقيقه والحمار في نهيقه، والفرس في صهيله وماذا يقول الزرزور والدراج قال نعم أما القنبر فإنه يقول‏:‏ اللهم العن مبغض محمد وآل محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلين وأما الضفدع، فإنه يقول سبحان الله المعبود في البحار وأما الحمار فإنه يقول اللهم العن العشار وأما الفرس، فإنه يقول إذا التقى الجمعان سبوح قدوس رب الملائكة والروح وأما الزرزور، فإنه يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق وأما الدراج فإنه يقول الرحمن على العرش استوى، فأسلم هؤلاء اليهود وحسن إسلامهم وروي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال‏:‏ إذا صاح النسر قال‏:‏ يا ابن آدم عشت ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي محمد وآل محمد وإذا صاح الخطاف قال الحمد لله رب العالمين ويمد العالمين كما يمد القارئ‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏وأوتينا من كل شيء‏}‏ أي مما أوتي الأنبياء، والملوك قال ابن عباس‏:‏ من أمر الدنيا والآخرة وقيل النبوة والملك وتسخير الرياح والجن والشياطين ‏{‏إن هذا لهو الفضل المبين‏}‏ يعني الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا وروي أن سليمان أعطي مشارق الأرض ومغاربها فملك ذلك أربيعن سنة فملك جميع الدنيا من الجن والإنس والشياطين والطير، والدواب والسباع وأعطي مع هذا منطق الطير ومنطق كل شيء وفي زمنه صنعت الصنائع العجيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وحشر‏}‏ أي جمع ‏{‏لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير‏}‏ من الأماكن في مسير له ‏{‏فهم يوزعون‏}‏ أي يحبسون حتى يرد أولهم على آخرهم، قيل‏:‏ كان على جنوده وزعة من النقباء ترد أولها على آخرها لئلا يتقدموا في المسير قال محمد بن كعب القرظي كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة فالبريد ثمانية وأربعون ألف خطوة لأنه أربع فراسخ فجملة ذلك خمسة وعشرون بريداً وقيل نسجت الجن له بساطاً من ذهب وحرير، فرسخاً في فرسخ وكان يوضع كرسيه في وسطه، فيقعد وحوله كراسي الذهب والفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، والناس حوله والجن والشياطين حول الناس والوحوش حولهم وتظله الطيور بأجنحتها، حتى لا تقع عليه الشمس وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني حرة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به وأوحى الله إليه، وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح وأخبرتك به‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏حتى إذا أتوا على وادي النمل‏}‏ أي أشرفوا على وادي النمل روي عن كعب الأحبار قال‏:‏ كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر على عشرة من الإبل فيطبخ الطباخون ويخبز الخبازون وهو بين السماء والأرض واتخذ ميادين للدواب فتجري بين يديه والريح تهوي به فسار من اصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال سليمان‏:‏ هذه دار هجرة نبي يكون في آخر الزمان طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه ولما وصل مكة رأى حول البيت، أصناماً تعبد فجاوزه سليمان فلما جاوزه بكى البيت فأوحى الله إليه ما يبكيك قال يا رب أبكاني هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا علي، ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه لا تبك، فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك نبياً في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني، وأفرض عليهم فريضة يزفون إليك زفيف النسر إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان والأصنام والشيطان ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير وادٍ من الطائف فأتى على وادي النمل كذا قال كعب الأحبار‏.‏ وقيل‏:‏ إنه بالشأم هو واد يسكنه الجن وذلك النمل مراكبهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك النمل الذباب‏.‏ وقيل كالبخاتي والمشهور أنه النمل الصغير ‏{‏قالت نملة‏}‏ قيل‏:‏ كانت عرجاء وكانت ذات جناحين وقيل اسمها طاخية وقيل جرمى ‏{‏يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ ولم يقل ادخلن لأنه جعل لهم عقولاً كالآدميين فخوطبوا خطاب الآدميين وهذا ليس بمستعبد أن يخلق الله فيها عقلاً ونطقاً فإنه قادر على ذلك ‏{‏لا يحطمنكم‏}‏ أي لا يكسرنكم ‏{‏سليمان وجنوده وهم لا يشعرون‏}‏ قال أهل التفسير‏.‏ علمت النملة أن سليمان نبي ليس فيه جبروتية ولا ظلم، ومعنى الآية أنكم لو لم تدخلوا وطؤوكم، ولم يشعروا فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال وكان لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح حتى تلقيه إلى مسامع سليمان، فلما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخلوا بيوتهم‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وهو فوق البساط على متن الريح، قلت كأنهم أرادوا النزول عند منقطع الوادي، فلذلك قالت نملة‏:‏ لا يحطمنكم سليمان وجنوده لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم ‏{‏فتبسم ضاحكاً من قولها‏}‏ قيل أكثر ضحك الأنبياء تبسم وقيل معنى ضاحكاً متبسماً، وقيل‏:‏ كان أوله التبسم وآخره الضحك ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم» عن عبدالله بن الحارث بن جزء قال «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما كان سبب ضحك سليمان‏.‏ قلت شيئان‏:‏ أحدهما ما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا ما يفعلون‏.‏ الثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً من إدراك سمعه، ما قالته النملة وقيل‏:‏ إن الإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به تعجب وضحك، ثم إن سليمان حمد ربه على ما أنعم به عليه ‏{‏وقال رب أوزعني‏}‏ أي ألهمني ‏{‏أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏}‏ أي أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يريد مع إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين وقيل‏:‏ أدخلني الجنة مع عبادك الصالحين‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وتفقد الطير‏}‏ أي طلبها وبحث عنها والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير ‏{‏فقال ما لي لا أرى الهدهد‏}‏ وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه إخلاله بالنوبة، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلاً تظله وجنده الطير من الشمس، فأصابته الشمس من موضع الهدهد فنظر فرآه خالياً‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه كان دليله على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه من بعده فينقر الأرض فتجيء الشياطين فيحفرونه ويستخرجون الماء منه قال سعيد بن جبير‏:‏ لما ذكر ابن عباس هذا، قال نافع بن الأزرق بأوصاف انظر ما تقول إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء بالهدهد، وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب، وعمي البصر فنزل سليمان منزلاً واحتاج إلى الماء، فطلبوه فلم يجدوه فتفقد الهدهد ليدله على الماء فقال ما لي لا أرى الهدهد على تقدير أنه مع جنوده، وهو لا يراه ثم إنه أدركه الشك فقال ‏{‏أم كان من الغائبين‏}‏ أي أكان وقيل بل كان من أهل الغائبين، ثم أوعده على غيبته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قال‏:‏ ‏{‏لأعذبنه عذاباً شديداً‏}‏ قيل هو أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً لا يمتنع من النمل ولا من غيره وقيل لأودعنه القفص ولأحبسنه مع ضده، وقيل لأفرقنَّ بينه وبين إلفه ‏{‏أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين‏}‏ أي بحجة بينة على غيبته وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكر العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس، والطير والوحش فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام ما شاء الله أن يقيم، وكان في كل يوم ينحر حول مقامه خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن يحضر من أشراف قومه إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصرة على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه من الله لومة لائم قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ بدين الحنيفية فطوبى لمن أردكه وآمن به قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله قال مقدار ألف سنة فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة صباحاً، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء زوالاً أي وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغذى فلما نزل قال الهدهد‏:‏ اشتغل سليمان بالنزول فارتفع نحو السماء لينظر إلى الدنيا، وعرضها فبينما هو ينظر يميناً وشمالاً رأى بستاناً لبلقيس فنزل إليه فإذا هو بهدهد آخر وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن يعفير، فقال يعفير ليعفور‏:‏ من أين أقبلت وأين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود قال ومن سليمان بن داود‏؟‏ قال‏:‏ ملك الإنس والجن والشياطين، والطير والوحش والرياح فمن أين أنت يا يعفير قال أنا من هذه البلاد قال‏:‏ ومن ملكها‏؟‏ قال‏:‏ امرأة يقال لها بلقيس وإن لصاحبك ملكاً عظيماً، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يديرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة‏.‏ قال فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وأما سليمان فإنه نزل على غير ماء فسأل عن الماء الإنس والجن فلم يعلموا فتفقد الهدهد فلم يره فدعا بعريف الطير، وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان فغضب سليمان وقال لأعذبنه الآية ثم دعا العقاب وهو أشد الطير، فقال له عليّ بالهدهد هذه الساعة فرفع العقاب في الهواء حتى رأى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، ثم التفت يميناً وشمالاً فرأى الهدهد مقبلاً من نحو اليمن فانقض العقاب بريده، فعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال له بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء فتركه العقاب وقال ويحك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو أن يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا‏:‏ ويلك إين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال سليمان‏.‏

فقال الهدهد‏:‏ أو ما استثنى نبي الله قالوا بلى ولكنه قال أو ليأتيني بسلطان مبين‏.‏ قال نجوت إذاً فانطلق به العقاب‏:‏ حتى أتيا سليمان وكان قاعداً على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه‏.‏ وقال له‏:‏ أين كنت لأعذبنك عذاباً شديداً فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم قال ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد ما أخبر الله عنه بقوله تعالى ‏{‏فمكث غير بعيد‏}‏ معناه أي غير طويل ‏{‏فقال أحطت بما لم تحط به‏}‏ أي عملت ما لم تعلم وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك ألهم الله الهدهد هذا الكلام فكافح سليمان تنبيهاً على أن أدنى خلق الله قد أحاط علماً بما لم يحط به ليكون لطفاً له في ترك الإعجاب‏.‏ والإحاطة بالشيء علماً أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه من معلوم ‏{‏وجئتك من سبأ‏}‏ قيل‏:‏ هو اسم للبلد وهي مأرب والأصح أنه اسم رجل وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقد جاء في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن سبأ فقال‏:‏ «رجل له عشرة من النبين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» ‏{‏بنبأ‏}‏ أي بخبر ‏{‏يقين‏}‏ فقال سليمان وما ذاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 28‏]‏

‏{‏إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قال‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ أي الهدهد ‏{‏وجدت امرأة تملكهم‏}‏ هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب من قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤاً لي وأبى أن يتزوج منهم فخطب إلى الجن فزوجوه منهم امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن‏.‏ قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم، أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن، وهم على صورة الضباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فزوجه إياها وقيل إنه خرج متصيداً فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء، وقد ظهرت السوداء على البيضاء، فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت، وأطلقها فلما رجع إلى داره وجلس وحده منفرداً، فإذا معه شاب جميل فخاف منه، قال‏:‏ لا تخاف أنا الحية البيضاء التي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا، وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال‏:‏ المال لا حاجة لي به‏.‏ ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته، فولدت له بلقيس وجاء في الحديث «إن أحد أبوي بلقيس كان جنياً‏:‏ فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك وطلبت قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون، وملكوا عليهم رجلاً آخر يقال‏:‏ إنه ابن أخي الملك وكان خبيثاً سيء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته، ويفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك، أدركتها الغيرة فأرسلت إليه فعرضت نفسها عليه فأجابها الملك وقال‏:‏ ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لأنك كفوء كريم فاجمع رجال أهلي واخطبني منهم، وخطبها فقالوا لا نراها تفعل فقال‏:‏ بلى إنها قد رغبت فيّ فذكروا ذلك لها فقالت‏:‏ نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها، فلما دخلت به سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها من الليل، فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلاً وقالت اختاروا رجلاً تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكراً وخديعة منها ‏(‏خ‏)‏ عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال» لن يفلح قوم ملكوا عليهم امرأة «قوله تعالى ‏{‏وأوتيت من كل شيء‏}‏ يعني ما تحتاج إليه الملوك من المال والعدة ‏{‏ولها عرش عظيم‏}‏ أي سرير ضخم عال‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف استعظم الهدهد عرشها على ما رأى من عظمة ملك سليمان‏.‏ قلت‏:‏ يحتمل أنه استعظم ذلك بالنسبة إليها، ويحتمل أنه لم يكن لسليمان مع عظم ملكه مثله وكان عرش بلقيس من الذهب مكللاً بالدر، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق قال ابن عباس‏:‏ كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً‏.‏ وقيل كان طوله ثمانين في ثمانين وعلوه ثمانون وقيل‏:‏ كان طوله ثمانين وعرضه أربعين وارتفاعه ثلاثون ذراعاً‏.‏ قوله عز وجل إخباراً عن الهدهد ‏{‏وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله‏}‏ وذلك أنهم كانوا يعبدون الشمس، وهم مجوس ‏{‏وزين لهم الشيطان أعمالهم‏}‏ المزين هو الله لأنه الفعل لما يريد، وإنما ذكر الشيطان لأنه سبب الإغواء ‏{‏فصدهم عن السبيل‏}‏ أي عن طريق الحق الذي هو دين الإسلام ‏{‏فهم لا يهتدون‏}‏ أي إلى الصواب ‏{‏ألا يسجدوا‏}‏ قرئ بالتخفيف ومعناه ألا يا أيها الناس اسجدوا وهو أمر من الله مستأنف، وقرئ بالتشديد ومعناه وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا ‏{‏لله الذي يخرج الخبء‏}‏ يعني الخفي المخبأ ‏{‏في السموات والأرض‏}‏ قيل خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات ‏{‏ويعلم ما تخفون وما تعلنون‏}‏ والمقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وغيرها، من دون ا لله لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السموات والأرض، عالم بجميع المعلومات ‏{‏الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏}‏ أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره‏.‏

فصل

وهذه السجدة من عزائم السجود، يستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد وقف عرش بلقيس بالعظم وعشر الله بالعظم، فما الفرق بينهما‏.‏ قلت وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا وأما عرش الله تعالى فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض، فحصل الفرق بينهما فلما فرغ الهدهد من كلامه ‏{‏قال‏}‏ سليمان ‏{‏سننظر أصدقت‏}‏ أي فيما أخبرت ‏{‏أم كنت من الكاذبين‏}‏ ثم إن الهدهد دلهم على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، ثم إن سليمان كتب كتاباً‏:‏ من عبدالله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ «بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين قيل لم يزد على ما نص الله في كتابه، وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملاً، لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب سليمان الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد ‏{‏اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم‏}‏ إنما قال‏:‏ إليهم بلفظ الجمع لأنه جعله جواباً لقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس فقال‏:‏ فألقه إلى الذين هذا دينهم ‏{‏ثم تول عنهم‏}‏ أي تنح عنهم فقف قريباً منهم ‏{‏فانظر ماذا يرجعون‏}‏ أي يردون من الجواب وقيل‏:‏ تقدير الآية فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنه، أي انصرف إلي فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به بلقيس وكانت بأرض مأرب من اليمن على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها وكذلك كانت تفعل إذا رقدت فآتى الهدهد وألقى الكتاب على نحرها وقيل‏:‏ حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على المرأة وحولها القادة والوزراء والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت بلقيس رأسها فألقى الكتاب على حجرها وقال وهب بن منبه‏:‏ كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد، وسد الكوة بجناحيه فارتفعت الشمس، ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت، وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد وجاءت هي حتى قعدت على سرير ملكها، وجمعت الملأ من قومها وهم الأشراف وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل ملك دون الملك الأعظم وقيل كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل رجل منهم على عشرة آلاف فلما جاؤوا وأخذوا مجالسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 35‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏قالت‏}‏ لهم بلقيس ‏{‏يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ قيل سمته كريماً لأنه كان مختوماً، روى ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه سلم قال «كرامة الكتاب ختمه» وقال ابن عباس‏:‏ كريم أي شريف لشرف صاحبه، ثم بينت ممن الكتاب فقالت ‏{‏إنه من سليمان‏}‏ قرأت المكتوب فيه فقالت ‏{‏وإنه بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ فإن قلت لم قدم إنه من سليمان على بسم الله‏.‏ قلت‏:‏ ليس هو كذلك بل ابتدأ سليمان ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس، أن هذا الكتاب من سليمان ثم ذكرت ما في الكتاب فقالت‏:‏ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏ألا تعلوا علي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تتكبروا علي‏.‏ والمعنى لا تمتنعوا من الإجابة فإن ترك الإجابة، من العلو والتكبر ‏{‏وأتوني مسلمين‏}‏ أي طائعين مؤمنين وقيل من الاستسلام وهو الانقياد ‏{‏قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري‏}‏ أي أشيروا علي فيما عرض علي ‏{‏ما كنت قاطعة أمراً‏}‏ أي قاضية وفاصلة ‏{‏حتى تشهدون‏}‏ أي تحضرون ‏{‏قالوا‏}‏ يعني الملأ مجيبين لها ‏{‏نحن أولو قوة‏}‏ أي في الجسم على القتال ‏{‏وأولو بأس شديد‏}‏ أي عند الحرب وقيل أرادوا بالقوة كثرة العدد والبأس والشجاعة وهذا تعريض منهم بالقتال أي إن أمرتهم بذلك قالوا ‏{‏والأمر إليك‏}‏ أيتها الملكة أي في القتال وتركه ‏{‏فانظري ماذا تأمرين‏}‏ أي تجدين مطيعين لأمرك ‏{‏قالت‏}‏ بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال وما يؤول إليه أمره ‏{‏إن الملوك إذا دخلوا قرية‏}‏ أي عنوة ‏{‏أفسدوها‏}‏ أي خربوها ‏{‏وجعلوا أعزة أهلها أذلة‏}‏ أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر تحذرهم بذلك مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ثم تناهى الخبر عنها هنا، وصدق الله قولها فقال تعالى ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏ أي كما قالت هي يفعلون وقيل هو من قولها وهو للتأكيد لما قالت ثم قالت ‏{‏وإني مرسلة إليهم بهدية‏}‏ يعني إلى سليمان وقومه أصانعه بها على ملكي، وأختبره بها أملك هو أم نبي فإن كان ملكاً قبل الهدية ورجع، وإن كان نبياً لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه في دينه وهو قولها ‏{‏فناظرة بم يرجع المرسلون‏}‏ وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة قد ساست الأمور، وجربتها فأهدت وصفاء ووصائف‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ مائة وصيف ومائة وصيفة قال وهب وغيره عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لبس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب، وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة، وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة، والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر، وأغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من الذهب ولبنات من الفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود اليلنجوج وعمدت إلى حق جعلت فيه درة بقيمة ثمينة غير مثقوبة، وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له‏:‏ المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب عقل ورأي وكتبت مع المنذر كتاباً تذكر فيه الهدية، وقالت‏:‏ إن كنت نبياً ميز بن الوصفاء والوصائف، وأخبرنا بما في الحق قبل أن تفتحه واثقب الدرة ثقباً مستوياً وأدخل في الخرزة خيطاً من غير علاج إنس ولا جن، وأمرت بلقيس الغلمان فقالت‏:‏ إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول انظر إذا دخلت، فإن نظر إليك نظراً فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك أمره ومنظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فافهم أنه نبي فتفهم قوله ورد الجواب فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان، فأخبره فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبناً من الذهب والفضة، ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسعة فراسخ وأن يفرشوا لبن الذهب والفضة، وأن يخلوا مقدار تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حائطاً شرفه من الذهب والفضة، ففعلوا ثم قال أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا يا نبي الله ما رأينا أحسن من دابة من دواب البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال‏:‏ علي بها الساعة فأتوا بها قال شدوها بين يمين الميدان وشماله ثم قال للجن علي بأولادكم، فاجتمع منهم خلاق كثير فأقامهم على يمين الميدان، وعلى شماله وأمر الإنس والجن والشياطين، والوحوش والطير والسباع فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم إلى الميدان ونظروا إلى ملك سليمان رأوا أول الأمر الدواب، التي لا يرى مثلها تروث في لبنات الذهب والفضة، فلما رأوا ذلك تقاصرت أنفسهم وخبؤوا ما معهم من الهدايا وقيل إن سليمان فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة، وترك على طريقهم موضعاً على قدر ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً خافوا أن يتهموا بذلك، فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأوا الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين جوزوا لا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كراديس الإنس والجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان، فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم تلقياً حسناً، وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا فيه وأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال أين الحق‏؟‏ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه، فقال لهم‏:‏ أن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة معوجة الثقب قال الرسول‏:‏ صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان‏:‏ من لي بثقبها وسأل الإنس والجن، فلم يكن عندهم علم ثم سأل الشياطين فقالوا‏:‏ نرسل إلى الأرضة فلما جاءت الأرضة أخذت شعرة في فيها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان ما حاجتك قالت‏:‏ تصير رزقي في الشجر‏.‏

فقال‏:‏ لك ذلك ثم قال من لي بهذه الخرزة فقالت دودة بيضاء أنا لها يا نبي الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر‏.‏ فقال لها سليمان‏:‏ ما حاجتك فقالت يكون رزقي في الفواكة قال‏:‏ لك ذلك ثم ميز بن الغلمان والجواري، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها، تضرب بها الآخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها والغلام على ظاهره فميز بين الغلمان والجواري، ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله‏}‏ أي ما أعطاني من الدين والنبوة والحكمة والملك ‏{‏خير‏}‏ أي أفضل ‏{‏مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون‏}‏ معناه أنتم أهل مفاخرة ومكاثرة بالدنيا تفرحون بإهداء بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بالدنيا وليست الدنيا من حاجتي لأن الله قد أعطاني منها ما لم يعط أحداً ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد ‏{‏ارجع إليهم‏}‏ أي بالهدية ‏{‏فلنأتينهم بجنود لا قبل‏}‏ أي لا طاقة ‏{‏لهم بها ولنخرجنهم منها‏}‏ أي من أرض سبأ ‏{‏أذلة وهم صاغرون‏}‏ أي إن لم يأتوني مسلمين قال وهب وغيره من أهل الكتاب‏:‏ لما رجعت رسل بلقيس إليها أي من عند سليمان، وبلغوها ما قال سليمان قالت والله لقد عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة‏.‏ فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها داخل بعض ثم أغلقت عليه سبعة أبواب، ووكلت به حراساً يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على ملكها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في أثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن كل قيل تحت يده ألوف كثيرة، قال ابن عباس‏:‏ وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه‏.‏ فخرج يوماً فجلس على سريره فرأى رهجاً قريباً منه قال ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان فأقبل سليمان على جنوده ‏{‏قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرضها قبل أن يأتوني مسلمين‏}‏ قال ابن عباس يعني طائعين وقيل مؤمنين‏.‏ قيل‏:‏ غرض سليمان في إحضار عرشها ليريها قدرة الله تعالى وإظهار معجزة دالة على نبوته، وقيل أراد أن ينكره ويغيره قبل مجيئها ليختبر بذلك عقلها وقيل‏:‏ إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه لأنه أعجبه وصفه، لما وصفه له الهدهد وقيل أراد أن يعرف قدر ملكها لأن السرير على قدر المملكة ‏{‏قال عفريت من الجن‏}‏ وهو المارد القوي، وقال ابن عباس العفريت الداهية قال وهب‏:‏ اسمه كوذي‏.‏ وقيل‏:‏ ذكوان‏.‏ وقيل‏:‏ هو صخر المارد وكان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه ‏{‏أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك‏}‏ أي مجلس قضائك قال ابن عباس‏:‏ وكان له في الغداة مجلس يقضي فيه إلى متسع النهار وقيل نصفه ‏{‏وإني عليه‏}‏ أي على حمله ‏{‏لقوي أمين‏}‏ أي على ما فيه من الجواهر وغيرها قال سليمان‏:‏ أريد أسرع من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏قال الذين عنده علم من الكتاب‏}‏ قيل هو جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ هو ملك أيد الله به سليمان وقيل هو آصف بن برخيا وكان صديقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وقيل هو سليمان نفسه لأنه أعلم بني إسرائيل بالكتاب وكان الله قد آتاه علماً وفهماً، فعلى هذه يكون المخاطب العفريت الذي كلمه فأراد سليمان إظهار معجزة، فتحداهم أولاً ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتأتى للعفريب قيل‏:‏ كان الدعاء الذي دعا به‏:‏ يا ذا الجلال والإكرام وقيل‏:‏ يا حي يا قيوم‏.‏ وروي ذلك عن عائشة وروي عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب‏:‏ يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها، وقال ابن عباس‏:‏ إن آصف قال لسليمان حين صلى مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمين ودعا آصف، فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض، حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل‏:‏ خر سليمان ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر كرسي سليمان فقال‏:‏ ما قال ‏{‏أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏ قال سليمان‏:‏ هات قال أنت النبي ابن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك فإن دعوت الله كان عندك‏:‏ قال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت ‏{‏فلما رآه‏}‏ يعني رأى سليمان العرش ‏{‏مستقراً عنده‏}‏ أي محولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ‏{‏قال هذا من فضل ربي ليبلوني‏}‏ يعني لتمكن من حصول المراد ‏{‏أأشكر‏}‏ أي نعمته علي ‏{‏أم أكفر‏}‏ فلا أشكرها ‏{‏ومن شكر فإنما يشكر لنفسه‏}‏ أي يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة، ودوامها لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ‏{‏ومن كفر فإن ربي غني‏}‏ أي عن شكره لا يضره ذلك الكفران ‏{‏كريم‏}‏ يعني بالإفضال عليه لا يقطع نعمة عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة ‏{‏قال نكروا لها عرشها‏}‏ يعني غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته قيل‏:‏ هو أن يزاد فيه أو ينقص منه وقيل‏:‏ إنما يجعل أسفله أعلاه ويجعل مكان الجواهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر ‏{‏ننظر أتهتدي‏}‏ إلى معرفة عرشها ‏{‏أم تكون من الذين لا يهتدون‏}‏ إلى معرفته، وإنما حمل سليمان على ذلك ما قال وهب ومحمد بن كعب، وغيرهما أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفتشي إليه أسرار الجن، لأن أمها كانت جنية وإذا ولدت ولداً لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده فاساءوا اثناء عليها ليزهدوه فيها، وقالوا‏:‏ إن في عقلها شيئاً وأن رجلها كحافر الحمار، وإنها شعراء الساقين فأراد سليمان، أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح ‏{‏فلما جاءت قيل‏}‏ لها ‏{‏أهكذا عرشك قالت كأنه هو‏}‏ قيل‏:‏ إنها عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقيل‏:‏ إنها كانت حكيمة لم تقل نعم خوفاً من الكذب ولا قالت‏:‏ لا خوفاً من التكذيب أيضاً فقالت‏:‏ كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها بحيث لم تقر ولم تنكر اشتبه عليها أمر العرش، لأنها تركته في بيت عليه سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها قيل فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب ثم قالت ‏{‏وأوتينا العلم من قبلها‏}‏ يعني من قبل الآية في العرش ‏{‏وكنا مسلمين‏}‏ يعني منقادين مطيعين خاضعين لأمر سليمان وقيل‏:‏ قوله تعالى وأوتينا العلم أي بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبلها أي من قبل الآية في العرش، وكنا مسلمين أو معناه وأوتينا العلم بالله، وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة وكنا مسلمين ويكون الغرض من هذا شكر نعمة الله عليه أن خصه بمزيد العلم، والتقدم في الإسلام وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها طائعة وكنا مسلمين لله‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وصدها ما كانت تعبد من دون الله‏}‏ يعني منعتها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله وقيل معناه صدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله وحال بينها وبينه ‏{‏إنها كانت من قوم كافرين‏}‏ أخبر الله أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس ‏{‏قيل لها ادخلي الصرح‏}‏ وذلك أن سليمان لما اختبر عقلها بتنكير العرش وأراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفهما لما أخبرته الجن أن رجليها كحافر حمار، وهي شعراء الساقين أمر الشياطين، فعملوا لها قصراً من الزجاج الأبيض كالماء وقيل‏:‏ الصرح صحن الدار وأجرى تحته الماء، وألقى فيه السمك والضفادع وغرهما من دواب البحر ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه وقيل إنما عمل الصرح ليختبر به فهمها كما فعلت في الوصفاء والوصائف‏.‏ فلما جلس على السرير دعا بلقيس، ولما جاءت قيل لها ادخلي الصرح ‏{‏فلما رأته حسبته لجة‏}‏ أي ماء عظيماً ‏{‏وكشفت عن ساقيها‏}‏ لتخوض الماء إلى سليمان، فإذا هي أحسن النساء ساقاً وقدماً إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما نظر سليمان ذلك صرف بصره عنها ‏{‏قال إنه صرح ممرد‏}‏ أي مملس ‏{‏من قوارير‏}‏ زجاج وليس بماء فحينئذٍ سترت ساقيها وعجبت من ذلك وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى واستدلت بذلك على التوحيد والنبوة ‏{‏قالت ربي إني ظلمت نفسي‏}‏ بعبادة غيرك ‏{‏وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين‏}‏ أي أخلصت له التوحيد والعبادة، وقيل‏:‏ إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت‏:‏ في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا لما تبين لها خلاف ذلك قالت‏:‏ رب إني ظلمت نفسي بذلك الظن‏.‏

واختلفوا في أمر بلقيس بعد إسلامها، فقيل انتهى أمرها إلى قولها أسلمت لله رب العالمين ولا عمل لأحد وراء ذلك، لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح وقال بعضهم‏:‏ تزوجها سليمان وكره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس عما يذهب ذلك فقالوا الموسى‏.‏ فقالت المرأة إني لم يمسني حديد قط فكره سليمان الموسى وقال‏:‏ إنها تقطع ساقيها فسأل الجن فقالوا لا ندري فسأل الشياطين‏.‏ فقالوا‏:‏ نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة، والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذٍ‏.‏ فلما تزوجها سليمان أحبها حباً شديداً، وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً، وهي سلحين وبيسنون وغمدان ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام يبكر من الشام إلى اليمن ومن إلى الشام وولدت له ولداً ذكراً‏.‏ وقال وهب‏:‏ زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلاً من قومك حتى أزوجك إياه، فقالت‏:‏ ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي من قومي الملك والسلطان، قال‏:‏ نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله قالت‏:‏ فإن كان ولا بد فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه وذهب بها إلى اليمن، وملك زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة ملك الجن وقال له اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل يعمل له ما أراد إلى أن مات سليمان وحال الحول، وعلم الجن موت سليمان، فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن وقال بأعلى صوته‏:‏ يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك سليمان وملك ذي تبع وملك بلقيس، وبقي الملك لله الواحد القهار قيل إن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة‏.‏